الخميس  21 تشرين الثاني 2024

حكاية إنسانية أخرى للحرب [*]|- فراس حج محمد

2024-07-03 01:41:30 AM
حكاية إنسانية أخرى للحرب [*]|- فراس حج محمد
آلاء قطراوي

 

تدوين- آراء ومدونات

وهذه حكاية امرأة من غزة، عاشت في الصور من أجل غزة، ومن أجل أطفالها الثلاثة الذين حاصرهم الاحتلال ولم يسمح لأحد أن ينتشلهم من تحت الركام أربعة أشهر. حكاية الدكتورة الشاعرة آلاء القطراوي، وعلى الرغم من مصابها الجلل إلا أنها بدت صابرة ومحتسبة، ولخصت ذلك الوجع بقولها: "لم يبق في ظهري موضع من دون أن تنزّ منه الدماء، لكنني ما زلت أسير نحوك يا الله، لتُحبّني". (صفحة الفيسبوك: 22/5/2024)

استشهد أطفال آلاء الأربعة في قصف همجي،  وخلّف رحيلهم بهذه الطريقة المأساوية التي لم تكن الوحيدة، بل شهدها عشرات آلاف الناس الذين أكلتهم نار الحرب على قطاع غزة- خلف في ذهن الأمّ الشاعرة حسرة وألماً يعتصر قارئ منشوراتها، فما بالكم بقلبها هي. الأم التي أنجبت، وتعبت، وسهرت، وكانت ترى أطفالها يكبرون أمام ناظريها كل حين، تراقب حركاتهم وسكناتهم ومشاهدهم وحكاياتهم.

لم تكن الأم المكلومة لتبتعد عن توثيق تلك اللحظات السعيدة مع أولادها، فتكاثرت في ألبومها الصور، وصارت حياتهم تستعاد في هذه الظلال التي ثبتتهم على تلك الحال، فرحين مسرورين، متفائلين مقبلين على الحياة.

حوّلت الشاعرة آلاء صفحتها على الفيسبوك لتكون معرضا مفتوحا ثابتا لأولادها الشهداء، تكتبهم شعرا ونثرا وقصصا ومواقف، وأحلاما حلمتها مع أبنائها، فثمة صورة لأحد أبنائها وهو يعزف على البيانو، وتكتب تعليقا على هذه الصورة:

حين أُغمضُ عيني أسمع صوتك يا كناني، صوتك الذي أحبه جداً وما زال عذبا صافيا في أودية روحي، وَيْ كأني أسمعك تقول:

_ يا ملاك، هل تلعب معي الغميضة؟

_ حسنا

_ أغمض عينيك يا ملاك وعدّ للعشرة

يختبئ كنان بفرحه العالي، يعرف الملاك مكان اختبائه، إلا أنه يدّعي عدم رؤيته ويترك له مجالا ليفوز. يهرع كنان بسرعة ويصرخ: فزت عليك يا ملاك، لا تحزن، عليك أن تعد مرة أخرى للعشرة.

بينما كنان يجري ضاحكا ليختبئ من جديد، ينادي الملاك عليه استبدل مكانك يا كنان ولا تختبئ خلف شجرة الرمان، يردّ كنان: لكنني أحب الاختباء خلف شجرة الرمان... أغمض عيونك حين تمشي بقربي وادّعِ أنك لم ترني مثلما كانت تفعل ماما حين كانت تلعب معي. هيا عد للعشرة يا ملاك". تستعيد المشهد بالكامل في ذهنها من خلال قراءتها الخاصة لهذه اللحظة.

لا شكّ في أن الأمّ- أية أمّ- تفتقد أطفالها وتحن إليهم، وتصرّ على أن يظلوا حاضرين معها، فالصور صارت هي "المحل الأرفع" الذي يجعل الروح في مناجاة دائمة. فالصور في مثل هذه الحالة والحالات المشابهة لا تكون خالية من المعنى المكثف الذي يحدث مفارقته العجيبة في كل شيء، صورة الأطفال الضاحكين قبل الحرب الذين يعيشون حياتهم، ويلعبون مع أمهم، ويمارسون شقاواتهم بحضرتها، ويصنعون لها الحياة. هؤلاء الأطفال في العالم الآخر، لكنهم لم ينسحبوا من الحياة بشكل كامل، بقيت حياتهم ضمن ذلك الإطار التي حرصت الصور أن تجعلهم أحياء داخله، بهذا المعنى تختزن هذه الصورة حياة دائمة لا تكف عن تجدد المعنى في كل مرة تنظر فيها الأم إلى هذه الصور أو تعيد نشرها والتعليق عليها.

ما بين هاتين الصورتين، صورة الأطفال قبل الحرب، وصورتهم بعد الرحيل، حيث الجنة الموعودة. ترى الأم طفلها في المنام فتكتب هذا المشهد: "رأيت طفلي كنان البارحة في منامي حين أمسكت ذراعه لنمشي"، وبدأ  بعد ذلك بقراءة الفاتحة.

تبرز بينهما صورة أخرى تظل تصر الأم على استحضارها؛ صورة أبنائها وهم تحت الركام لمدة أربعة أشهر، ماذا تختزن هذه الصورة من مشاعر مؤلمة، والأم تعرف أن فلذات أكبادها تحت الركام. يا له من وجع! ويا له من صبر تحلت به، استحق أن تحوز لقب "خنساء عصرنا"، كما جاء في نصّ شعري للشاعر أسامة تاج السرّ.

حكاية الألم لا تتوقف وتظل تنزّ وجعا لا يهدأ، فالحرب لها هذه القدرة على أن تكون منتجة للألم المتجدد في حياة الباقين على قيد الحياة، وتبرز الصورة لتساعد على تأجيج هذا الألم أكثر مما تمنح الناس أماناً واطمئنانا وإن حاولوا أن يقولوا مثل هذا. وهذا- على أية حال- أسوأ ما في الحرب التي تحفر في أعماق الناس ونفوسهم أخاديد من الوجع المعبأ بالنار التي تأكل الأحشاء، وتفتت الأكباد، وتنفطر بسببه القلوب.

مشهد آخر تستدعيه الشاعرة آلا القطراوي مع ابنتها أوركيدا، هذه الطفلة الوردة التي كانت تحب التصوير، ترفق الأم الصورة وتكتب: "كنت أتعجبُ من كثرة حبك لتصويري لكِ يا صغيرتي، في كل مكان تقولين لي صوّريني ماما... ماااااما هيا صوّريني. إنني أذهب إلى كل تلك الأماكن يا حبيبتي، بجوار النافذة المطلة على البحر، في رواق المطبخ، في الصالون، في الشارع، على شاطئ البحر، داخل السيارة، عند درج ألعابك الخاص، بقرب دفتر تلوينك الجميل والذي تلونينه بحرفيّة عالية وانتقائية فنّانة، أشاهدك ترتبين أساورك الصغيرة في إحدى علب عطوري الفارغة، وتلفين عقدك الصغير فوق عنق عروستك كهدية لها، أُخرجُ هاتفي المحمول وأصوّركِ بعناية وحب، لكنني حين أفتح الاستديو لأشاهد الصور التي التقطتها، لا أجدك! هكذا في كل مرة ينكسر قلبي وأنا أحاول العثور عليكِ يا أوركيدا!". (1/6/2024)

يقول هذا المنشور- ومثله الكثير على صفحة الشاعرة في الفيسبوك- الكثير ليس حول الصور، بل أهمية التصوير في حياة الأطفال وعلاقتهم مع أمهم. عدا أن المنشور يصوّر باللغة صورة أخرى للأم وهي تلعب مع أطفالها، فالأم حريصة على أن تذكر كثيرا من تفاصيل المشهد الذي كان يوماً غاصّاً بالحياة. ولو دقق القارئ في هذا المنشور لوجد أن الصورة الذهنية التي تعيد الأم رسمها لابنتها غاية في الدقة والتناسق، صورة مستقاة من الحياة المعيشة التي ما زالت حاضرة وبقوة، فتعاد وتستعاد، وكما أن الشجى يبعث الشجى كما قيل في المثل، فإن الصورة اللوحة تستدعي الصورة الذهنية، وتحثّ الصورة الشعرية واللغوية على أن يتحدا معاً بهذه المشهدية العجيبة التي حرصت الدكتورة الشاعرة آلاء القطراوي على تجسيدها في نصوصها الشعرية.

كتبت الشاعرة أبياتا ترثي فيها أبناءها، وتصور حالتها على فقدهم، ونشرت هذه الأبيات على صفحتها بتاريخ: 26/5/2024:

امسحْ بكفكَ فوق دمعي علّها

                   تُشـــــــــــــفَى بكفـــــــكَ يا نبيُّ دمـــــــــــوعي

هيَ غَصّةٌ في القلبِ تُثقل كاهلي

                   أرأيــــــــــتَ أشـــــــــــــــــجاراً بـــــــدون فروعِ؟

أرأيتَ شمساً كيف تبكي ضوءها

                  حين ارتدتْ ثوبَ الحدادِ شموعي؟

أرأيت كيف غدتْ جنائنُ ضحكتي

                    قمحاً يعذّبــــه الأسى من جوعي؟

ليست تضيقُ الأرضُ لكنْ إنها

                  ضاقت عليَّ من الفراقِ ضلوعي

إن الصورة الشعرية في هذه الأبيات ليست تزينا شعرياً، إنما هي تصوير حامل للمعنى تماما، ليتحول كل بيت من هذه الأبيات إلى صورة جزئية في مشهد الموت الكليّ، وقد تركت وحيدة كشجرة لا فروع لها، صورة تعادل علاقة الأم الشجرة بأطفالها الذين هم فروعها، هذا تشبيه حقيقي جدا، وليس انحيازا بلاغيا فارغا من المضمون، وأتبعت هذه الصورة صورة أخرى الشمس التي تبكي ضوءها، بمعنى تبكي فقدانها ضوءها، لأن الشاعرة ارتدت ثوب الحداد. تبدو هذه الصورة مركبة من عناصر حسية مادية لونية لها حضور في الصور عادة، الضوء لون، والشمس عنصر لون، والحداد لون، والشموع لون، وضوؤها لون. تبدلت الألوان في الصورة الواقعية فتبدلت في النص. تختزل وتختزن هذه الصورة كل شيء مرّ في حياة الشاعرة، في ما يتصل بمعاناتها بأبنائها الشهداء.

وفي البيت الثالث تستعير من الماضي "جنائن الضحك"، تلك الضحكات التي أطرتها الصور التي نشرتها لأبنائها، بدوا ضاحكين فرحين مسرورين، ليسوا وحدهم بل إن أمهم معهم ضاحكة ومسرورة، هذا الماضي المجسد بالصورة الشعرية هو نفسه المجسّد بالصورة الفوتوغرافية، لكنه تحول إلى حاضر مختلف، ليغدوَ "قمحا يعذبه الأسى من جوعي". لا شك في أن هذه الصورة عميقة وإنسانية، تختصر المعاناة الفردية والجماعية، لا سيما وغزة شهدت تجويعا ممنهجا ضدها لإخضاعها، وقضى كثيرون نحبهم بسبب الجوع. تأتي هذه الضحكات المختزنة في الصور وفي الذهن لتحلّ محل القمح، هذا القمح المعذّب لأنه دلالة على الجوع الذي ليس منه شفاء. بل ربما في البيت إشارة على امتناع الشاعرة عن الأكل، ما سبب للقمح/ الخبز أسى وهو يحسّ أن الشاعر جائعة، وهو يعلم مقدار جوعها لأبنائها أكثر من جوعها للطعام. إنها صورة مذهلة في رسمها للبعد النفسي لامرأة تلاشت فيها كل الأوجاع وكل الجوعات ولم تعد تتذكر إلا جوعها لأبنائها.

من الطبيعيّ إذاً أن تصل إلى هذه الخلاصة الراسمة للعذاب، بحيث تبدو الضلوع ضيقة عليها، بسبب الفراق: "ليست تضيقُ الأرضُ لكنْ إنها، ضاقت عليَّ من الفراقِ ضلوعي"، فالأرض ليست ضيقة، وكأنها تشير إلى قول الله تبارك وتعالى "حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت"، وإنما ضلوعها بما تحويه من قلب موجوع قد ضاق عليها من كثرة ما فيه من وجع وما ازدحم فيه من صور وذكريات تضجّ بالحياة التي مضت بطرفة عين نتيجة هذا العدوان الذي لم يرحم أطفالها وعشرات الأطفال الآخرين غير أبنائها.

تمثل الشاعرة وصور أبنائها وكتابتها عنهم حالة إنسانية إبداعية متكاملة، جديرة بالدراسة الفاحصة المتأنية، لأنها استطاعت أن تتعالى على أوجاعها فتكتب عن الحرب من بعدها الذاتي الإنساني الخاص، والبعد العام؛ فهي لم تنس أن تكتب عن الناس وأوجاعهم، وعيشهم القاسي في ظل هذه الأوضاع الكارثية، وتعبّر عن رأيها في ما يحدث ومنشوراتها أفضل وثيقة تدل على الناس المصابة بآلام الحرب لكنها مع ذلك لم تشعر بفقدان الأمل، وتحمّل الاحتلال الهمجي كل المسؤولية عما جرى؛ فهو لا يريد مبررا لقتلنا كلنا نحن الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس وليس فقط في غزة، كما كتبت في منشور لها بتاريخ 12/6/2024:

لا يحتاج الاحتلال أي مبرر لقتلنا، فالاحتلال الذي قتل أطفالي الأبرياء بدم بارد قبل أشهر هو ذاته الذي أخرج جدي (علي) من قريتنا قطرة قضاء مدينة الرملة عام 1948 م، [.....] وهو ذاته الذي ارتكب مجزرة صبرا وشاتيلا المروّعة ومجزرة دير ياسين، وهو ذاته الذي احتل سيناء المصرية والجولان في سوريا ومزارع شبعا في لبنان، وهو ذاته الذي يقتل يوميا الفلسطينيين دون أدنى سبب على الحواجز العسكرية في الضفة الغربية، ويحرق منازلهم ويقتحم بلداتهم ويمارس كل أشكال الفصل العنصري. الاحتلال يكره النظر في عيوننا لأنها تخبره في كل مرّة بأنه سارق، وأنّ هذه الأرض أرضنا، لذلك هو سيقتلنا دائما دون أي مبرر ليحافظ على وجوده. كل ما يفعله الاحتلال البغيض الآن هو أنه يُجدّد ثأرنا الأزليّ معه. الاحتلال هو الاحتلال و(نقطة).

لم تفقد الشاعرة البوصلة، ولم يطمس الحزن بصيرتها، كما قد يحدث عادة، بل إنها لا ترى إلا إن الاحتلال هو المجرم الوحيد، وليس غيره. هذا هو الضمير الموجوع الذي يكتب بهذا الوعي السياسي العميق، فترى المسألة بصفاء ذهن وبصيرة متوقدة، فلن تنحرف عن أن تقول الحقيقة كما يجب أن تقال، ويصرّح بها.

رحم الله شهداء غزة وفلسطين، ورحم الله أبناء الشاعرة الصابرة المحتسبة الذين هم وكل أولئك الأطفال والشهداء "أرواحُهم في جوفِ طيرٍ خُضْر، لها قناديل معلَّقة بالعرش، تسرحُ من الجنة حيث شاءتْ، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربُّهم اطلاعةً، فقال: هل تشتهون شيئًا؟ قالوا: أي شيء نشتهي، ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟". إنها مرة أخرى صورة إلهية التكوين حاضرة في الذهن أيضا عند الشاعرة وعند غيرها من المؤمنين الذين ظلوا ثابتين لم تزعزع الحرب إيمانهم ولا يقينهم حتى يلقوا ربهم وهم على ذلك.

________________

[*] فقرة من كتاب "فتنة الحاسة السادسة- تأملات حول الصور"، سيصدر قريباً عن دار الفاروق في نابلس.